فصل: تفسير الآية رقم (109):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (109):

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109)}
قوله عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} الآية. قال محمد بن كعب القرظي والكلبي: قالت قريش يا محمد إنك تخبرنا أن موسى كان معه عصى يضرب بها الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينا، وتخبرنا أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى فأتنا من الآيات حتى نصدقك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي شيء تحبون؟ قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبا أو ابعث لنا بعض أمواتنا حتى نسأله عنك أحق ما تقول أم باطل، أو أرنا الملائكة يشهدون لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني؟ قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين، وسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله أن يجعل الصفا ذهبا فجاءه جبريل عليه السلام، فقال له: اختر ما شئت إن شئت أصبح ذهبا ولكن إن لم يصدقوا عذبتهم، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل يتوب تائبهم، فأنزل الله عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي: حلفوا بالله جهد أيمانهم، أي: بجهد أيمانهم، يعني أوكد ما قدروا عليه من الأيمان وأشدها.
قال الكلبي ومقاتل: إذا حلف الرجل بالله، فهو جهد يمينه.
{لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} كما جاءت من قبلهم من الأمم، {لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ} يا محمد، {إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} والله قادر على إنزالها، {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} وما يدريكم.
واختلفوا في المخاطبين بقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} فقال بعضهم: الخطاب للمشركين الذين أقسموا.
وقال بعضهم: الخطاب للمؤمنين.
وقوله تعالى: {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} قرأ ابن كثير وأهل البصرة وأبو بكر عن عاصم {إنها} بكسر الألف على الابتداء، وقالوا: تم الكلام عند قوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} فمن جعل الخطاب للمشركين قال: معناه: وما يشعركم أيها المشركون أنها لو جاءت آمنتم؟ ومن جعل الخطاب للمؤمنين قال معناه: وما يشعركم أيها المؤمنون أنها لو جاءت آمنوا؟ لأن المسلمين كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله حتى يريهم ما اقترحوا حتى يؤمنوا فخاطبهم بقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} ثم ابتدأ فقال جل ذكره: {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} وهذا في قوم مخصوصين حكم الله عليهم بأنهم لا يؤمنون، وقرأ الآخرون: {أنها} بفتح الألف وجعلوا الخطاب للمؤمنين، واختلفوا في قوله: {لا يُؤْمِنُونَ} فقال الكسائي: {لا} صلة، ومعنى الآية: وما يشعركم أيها المؤمنون أن الآيات إذا جاءت المشركين يؤمنون؟ كقوله تعالى: {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون} [الأنبياء، 95]، أي: يرجعون وقيل: إنها بمعنى لعل، وكذلك هو في قراءة أُبيّ، تقول العرب: اذهب إلى السوق أنك تشتري شيئا، أي: لعلك، وقال عدي بن زيد:
أعاذل ما يدريك أن منيتي ** إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد

أي: لعل منيتي، وقيل: فيه حذف وتقديره: وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون أو لا يؤمنون؟ وقرأ ابن عامر وحمزة {لا تؤمنون} بالتاء على الخطاب للكفار واعتبروا بقراءة أُبيّ: إذا جاءتكم لا تؤمنون، وقرأ الآخرون بالياء على الخبر، دليلها قراءة الأعمش: أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون.

.تفسير الآيات (110- 111):

{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)}
{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} قال ابن عباس: يعني ونحول بينهم وبين الإيمان، فلو جئناهم بالآيات التي سألوا ما آمنوا بها كما لم يؤمنوا به أول مرة، أي: كما لم يؤمنوا بما قبلها من الآيات من انشقاق القمر وغيره، وقيل: كما لم يؤمنوا به أول مرة، يعني معجزات موسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام، كقوله تعالى: {أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل} [القصص، 48]، وفي الآية محذوف تقديره فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: المرة الأولى دار الدنيا، يعني لو رُدّوا من الآخرة إلى الدنيا نقلب أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان كما لم يؤمنوا في الدنيا قبل مماتهم، كما قال: {ولو رُدّوا لعادوا لما نُهوا عنه} [الأنعام، 28] {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} قال عطاء: نخذلهم وندعهم في ضلالتهم يتمادون.
{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ} فرأوهم عيانا، {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} بإحيائنا إياهم فشهدوا لك بالنبوة كما سألوا، {وَحَشَرْنَا} وجمعنا، {عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا} قرأ أهل المدينة وابن عامر {قبلا} بكسر القاف وفتح الباء، أي معاينة، وقرأ الآخرون بضم القاف والباء، هو جمع قبيل، وهو الكفيل، مثل رغيف ورُغف، وقضيب وقُضُب أي: ضُمناء وكُفلاء، وقيل: هو جمع قبيل وهو القبيلة، أي: فوجا فوجا، وقيل: هو بمعنى المقابلة والمواجهة، من قولهم: أتيتك قبلا لا دبرا إذا أتاه من قبل وجهه، {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ذلك، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}.

.تفسير الآيات (112- 113):

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)}
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} أي: أعداء فيه تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم، يعني كما ابتليناك بهؤلاء القوم، فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك أعداء، ثم فسّرهم فقال: {شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ} قال عكرمة والضحاك والسدي والكلبي: معناه شياطين الإنس التي مع الإنس، وشياطين الجن التي مع الجن، وليس للإنس شياطين، وذلك أن إبليس جعل جنده فريقين فبعث فريقا منهم إلى الإنس وفريقا منهم إلى الجن، وكلا الفريقين أعداء للنبي صلى الله عليه وسلم ولأوليائه، وهم الذين يلتقون في كل حين، فيقول شيطان الإنس لشيطان الجن: أضللت صاحبي بكذا فأضل صاحبك بمثله، وتقول شياطين الجن لشياطين الإنس كذلك، فذلك وحي بعضهم إلى بعض.
قال قتادة ومجاهد والحسن: إن من الإنس شياطين كما أن من الجن شياطين، والشيطان: العاتي المتمرد من كل شيء، قالوا: إن الشيطان إذا أعياه المؤمن وعجز من إغوائه ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليفتنه، يدل عليه ما روي عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس»؟ فقلت: يا رسول الله وهل للإنس من شياطين؟
قال: «نعم، هم شر من شياطين الجن».
وقال مالك بن دينار: إن شياطين الإنس أشد عليّ من شياطين الجن، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانا.
قوله تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} أي: يلقي، {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} وهو قول مموّه مزين بالباطل لا معنى تحته، {غُرُورًا} يعني: لهؤلاء الشياطين يزينون الأعمال القبيحة لبني آدم، يغرونهم غرورا، والغرور: القول الباطل، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أي: ما ألقاه الشيطان من الوسوسة في القلوب {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}.
{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} أي: تميل إليه، والصغو: الميل، يقال: صغو فلان معك، أي: ميله، والفعل منه: صغى يصغي، صغا، وصغى يصغى، ويصغو صغوا، والهاء في {إليه} راجعة إلى زخرف القول: {وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا} ليكتسبوا، {مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} يقال: اقترف فلان مالا إذا اكتسبه، وقال تعالى: {ومن يقترف حسنة} [الشورى، 23]، وقال الزجاج: أي ليعملوا من الذنوب ما هم عاملون.

.تفسير الآيات (114- 117):

{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)}
قوله عز وجل: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ} فيه اضمار أي: قل لهم يا محمد أفغير الله، {أَبْتَغِي} أطلب {حَكَمًا} قاضيا بيني وبينكم، وذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل بيننا وبينك حكما فأجابهم به، {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا} مبينا فيه أمره ونهيه، يعني: القرآن، وقيل: مفصلا أي خمسا خمسا وعشرا وعشرا، كما قال: {لنثبت به فؤادك} [الفرقان، 32]، {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} يعني: علماء اليهود والنصارى الذين آتيناهم التوراة والإنجيل، وقيل: هم مؤمنو أهل الكتاب، وقال عطاء: هم رءوس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بالكتاب هو القرآن، {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ} يعني: القرآن، قرأ ابن عامر وحفص {منزل} بالتشديد من التنزيل لأنه أنزل نجوما متفرقة، وقرأ الآخرون بالتخفيف من الإنزال، لقوله تعالى: {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب}، {مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} من الشاكين أنهم يعلمون ذلك.
قوله عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} قرأ أهل الكوفة ويعقوب {كلمة} على التوحيد، وقرأ الآخرون {كلمات} بالجمع، وأراد بالكلمات أمره ونهيه ووعده ووعيده، {صِدْقًا وَعَدْلا} أي: صدقا في الوعد والوعيد، وعدلا في الأمر والنهي، قال قتادة ومقاتل: صادقا فيما وعد وعدلا فيما حكم، {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} قال ابن عباس: لا رادّ لقضائه ولا مغيّر لحكمه ولا خلف لوعده، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قيل: أراد بالكلمات القرآن لا مبدّل له، لا يزيد فيه المفترون ولا ينقصون.
{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} عن دين الله، وذلك أن أكثر أهل الأرض كانوا على الضلالة، وقيل: أراد أنهم جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في أكل الميتة، وقالوا: أتأكلون ما تقتلون ولا تأكلون ما قتله الله عز وجل؟ فقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ} أي: وإن تطعهم في أكل الميتة يضلوك عن سبيل الله، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} يريد أن دينهم الذي هم عليه ظن وهوى لم يأخذوه عن بصيرة، {وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} يكذبون.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} قيل: موضع {من} نصب بنزع حرف الصفة، أي: بمن يضل، وقال الزجاج: موضعه رفع بالابتداء، ولفظها لفظ الاستفهام، والمعنى: إن ربك هو أعلم أيُّ الناس من يضل عن سبيله، {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أخبر أنه أعلم بالفريقين الضالين والمعتدين فيجازي كلا بما يستحقه.

.تفسير الآيات (118- 119):

{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)}
قوله عز وجل: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي: كلوا مما ذبح على اسم الله، {إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ}.
وذلك أنهم كانوا يُحرّمون أصنافا من النعم ويحلون الأموات، فقيل لهم: أحلوا ما أحل الله وحرموا ما حرم الله.
ثم قال: {وَمَا لَكُمْ} يعني: أي شيء لكم، {أَلا تَأْكُلُوا} وما يمنعكم من أن تأكلوا {مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} من الذبائح، {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} قرأ أهل المدينة ويعقوب وحفص {فصل} و{حرم} بالفتح فيهما أي فصل الله ما حرمه عليكم، لقوله: {اسْمَ اللَّهِ} وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بضم الفاء والحاء وكسر الصاد والراء على غير تسمية الفاعل، لقوله: {ذُكِرَ} وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر {فصل} بالفتح و{حرم} بالضم، وأراد بتفصيل المحرمات ما ذكر في قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم} [المائدة، 3]، {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} من هذه الأشياء فإنه حلال لكم عند الاضطرار، {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ} قرأ أهل الكوفة بضم الياء وكذلك قوله: {ليضلوا} في سورة يونس، لقوله تعالى: {يضلوك عن سبيل الله}، وقيل: أراد به عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين الذين اتخذوا البحائر والسوائب، وقرأ الآخرون بالفتح لقوله: {مَنْ يَضِلُّ} {بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} حين امتنعوا من أكل ما ذكر اسم الله عليه ودعوا إلى أكل الميتة {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} الذين يجاوزون الحلال إلى الحرام.

.تفسير الآيات (120- 121):

{وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)}
{وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ} يعني: الذنوب كلها لأنها لا تخلو من هذين الوجهين، قال قتادة: علانيته وسره، وقال مجاهد: ظاهر الإثم ما يعمله بالجوارح من الذنوب، وباطنه ما ينويه ويقصده بقلبه كالمصر على الذنب القاصد له.
وقال الكلبي: ظاهره الزنا وباطنه المخالة، وأكثر المفسرين على أن ظاهر الإثم الإعلان بالزنا، وهم أصحاب الروايات، وباطنه الاستسرار به، وذلك أن العرب كانوا يحبون الزنا فكان الشريف منهم يتشرف، فيسر به، وغير الشريف لا يبالي به فيظهره، فحرمهما الله عز وجل، وقال سعيد بن جبير: ظاهر الإثم نكاح المحارم وباطنه الزنا.
وقال ابن زيد: ظاهر الإثم التجرد من الثياب والتعري في الطواف والباطن الزنا، وروى حبان عن الكلبي: ظاهر الإثم طواف الرجال بالبيت نهارا عراة، وباطنه طواف النساء بالليل عراة، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ} في الآخرة، {بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} يكتسبون في الدنيا.
قوله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: الآية في تحريم الميتات وما في معناها من المنخنقة وغيرها.
وقال عطاء: الآية في تحريم الذبائح التي كانوا يذبحونها على اسم الأصنام.
واختلف أهل العلم في ذبيحة المسلم إذا لم يذكر اسم الله عليها: فذهب قوم إلى تحريمها سواء ترك التسمية عامدا أو ناسيا، وهو قول ابن سيرين والشعبي، واحتجوا بظاهر هذه الآية.
وذهب قوم إلى تحليلها، يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول مالك والشافعي وأحمد رضوان الله عليهم أجمعين.
وذهب قوم إلى أنه إن ترك التسمية عامدا لا يحل، وإن تركها ناسيا يحل، حكى الخرقي من أصحاب أحمد: أن هذا مذهبه، وهو قول الثوري وأصحاب الرأي.
من أباحها قال: المراد من الآية الميتات أو ما ذبح على غير اسم الله بدليل أنه قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} والفسق في ذكر اسم غير الله كما قال في آخر السورة {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ} إلى قوله: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}.
واحتج من أباحها بما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا يوسف بن موسى ثنا أبو خالد الأحمر قال سمعت هشام بن عروة يحدّث عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قالوا: يا رسول الله إن هنا أقواما حديث عهدهم بشرك يأتونا بلحمان لا ندري يذكرون اسم الله عليها أم لا؟ قال: «اذكروا أنتم اسم الله وكلوا».
ولو كانت التسمية شرطا للإباحة لكان الشك في وجودها مانعا من أكلها كالشك في أصل الذبح.
قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} أراد أن الشياطين ليوسوسون إلى أوليائهم من المشركين ليجادلوكم، وذلك أن المشركين قالوا: يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال: الله قتلها، قالوا: أفتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال، وما قتله الكلب والصقر حلال، وما قتله الله حرام؟ فأنزل الله هذه الآية، {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} في أكل الميتة، {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} قال الزجاج: وفيه دليل على أن من أحل شيئا مما حرم الله أو حرم ما أحل الله فهو مشرك.